فصل: تفسير الآيات (70- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (69):

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
{كالذين مِن قَبْلِكُمْ} التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محل الرفعِ على الخبرية، أي أنتم مثلُ الذين مِن قبلكم {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا} تفسيرٌ وبيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم {فاستمتعوا} تمتعوا، وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعلِ من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع {بخلاقهم} بنصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ} الكاف في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع {الذين مِنْ قَبْلِكُم بخلاقهم} ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم {وَخُضْتُمْ} أي دخلتم في الباطل {كالذي خَاضُواْ} أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه {أولئك} إشارةٌ إلى المتصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبَّهة بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة.
{حَبِطَتْ أعمالهم} ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان، أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ {فِى الدنيا والاخرة} بطريق المثوبةِ والكرامةِ، أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج {وَأُوْلئِكَ} أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين {هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رؤوسُ أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرَّهم ولم تنفعْهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا ينفعهم لكفى به خسراناً، وإيرادُ اسمِ الأشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران.

.تفسير الآيات (70- 71):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين {نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرُهم الذي له شأنٌ وهو ما فعل بهم والاستفهامُ للتقرير والتحذير {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وهم قومُ شعيبٍ {والمؤتفكات} قَرْياتُ قومِ لوطٍ ائتفَكَت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلَها وأُمطروا حجارةً من سجيل وقيل: قرياتُ المكذبين بهم وائتفاكُهن انقلابُ أحوالِهن من الخير إلى الشر {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئنافٌ لبيان نبئهم {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} الفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك، وإيثارُ ما عليه النظمُ الكريمُ للمبالغة في تنزيه ساحةِ السُّبحان عن الظلم، أي ما صح وما استقام له أن يظلِمهم ولكنهم ظلموا أنفسَهم، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله عز وجل: {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} للدِلالة على استمرار ظلمِهم حيث لم يزالوا يعرِّضونها للعقاب بالكفر والتكذيب، وتقديمُ المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى: {وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجيء لهذا مزيدُ بيان في قوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} بيانٌ لحسن حالِ المؤمنين والمؤمنات حالاً ومآلاً إثرَ بيانِ قبحِ حالِ أضدادِهم عاجلاً وآجلاً، والتعبيرُ عن نسبة هؤلاء بعضِهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبةَ هؤلاء بطريق القرابة الدينيةِ المبنية على المعاقدة المستتبعةِ للآثار من المعونة والنصرة وغيرِ ذلك ونسبةُ أولئك بمقتضى الطبيعةِ والعادة {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي جنسِ المعروف والمنكرِ المنتظمَين لكل خير وشر {وَيُقِيمُونَ الصلاة} فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ماسبق من قوله تعالى: نسُوا الله {وَيُؤْتُونَ الزكواة} بمقابلة قوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي، وهو بمقابله وصفِ المنافقين بكمال الفسقِ والخروج عن الطاعة {أولئك} إشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافِهم بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البعدِ للإشعار ببُعد درجتِهم في الفضل أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة {سَيَرْحَمُهُمُ الله} أي يُفيض عليهم آثارَ رحمتِه من التأييد والنصرة البتة لما أن السين مؤكدةٌ للوقوع كما في قولك: سأنتقم منك {أَنَّ الله عَزِيزٌ} تعليلٌ للوعد أي قويٌّ قادرٌّ على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه {حَكِيمٌ} يبني أحكامَه على أساس الحِكمةِ الداعيةِ إلى إيصال الحقوقِ من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهلِ المعصية وهذا وعدٌ للمؤمنين متضمِّنٌ لوعيد المنافقين كما أن ما سبق في شأن المنافقين من قوله تعالى: {فَنَسِيَهُمْ} وعيدٌ لهم متضمنٌ لوعد المؤمنين فإن منعَ لطفِه تعالى عنهم لطفٌ في حق المؤمنين.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
{وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} تفصيلٌ لآثار رحمتِه الدنيوية، والإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإشعارِ بعلية وصفِ الإيمان لحصول ماتعلق به الوعدُ، وعدمُ التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغيرِ ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبِعاته أي وعَدهم وعداً شاملاً لكل أحدٍ منهم على اختلاف طبقاتِهم في مراتب الفضل كيفاً وكماً {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} فإن كلَّ أحد منهم فائزٌ بها لا محالة {ومساكن طَيّبَةً} أي وعد بعضَ الخواصِّ الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش. في الخبر أنها قصورٌ من اللؤلؤ والزبرجدِ والياقوتِ الأحمر {فِى جنات عَدْنٍ} هي أبهى أماكنِ الجناتِ وأسناها. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عدْنٌ دارُ الله لم ترها عينٌ ولم تخطُرْ على قلب بشر لا يسكنها غيرُ ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» وعن ابن عمرو رضى الله عنهما إن في الجنة قصراً يقال له عدْن حوله البروج والمروج وله خمسةُ آلاف باب على كل باب خمسةُ آلافِ حَوْراء لا يدخُله إلا نبيٌّ أو صدّيقٌ أو شهيد، وعن ابن مسعود رضى الله عنه هي بُطنانُ الجنة وسُرَّتُها. فعدن على هذا عَلَم. وقيل: هو بمعناه اللغوي أعني الإقامة والخلود فمرجِعُ العطفِ إلى اختلاف الوصفِ وتغايُرِه فكأنه وصَفه أولاً بأنه من جنس ما هو أشرفُ الأماكنِ المعروفة عندهم من الجنات ذاتِ الأنهار الجارية ليميل إليها طباعُهم أولَ ما يقرع أسماعَهم، ثم وصفه بأنه محفوفٌ بطيب العيشِ مُعرّى عن شوائب الكدوراتِ التي لا تكاد تخلو عنها أماكنُ الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلذ الأعينُ ثم وصفه بأنه دارُ إقامةٍ وثباتٍ في جوار العلّيين لا يعتريهم فيها فناءٌ ولا تغيُّرٌ ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال: {ورضوان مّنَ الله} أي وشيء يسيرٌ من رضوانه تعالى {أَكْبَرُ} إذ عليه يدور فوزُ كل خيرٍ وسعادة وبه يُناط نيلُ كلِّ شرفٍ وسيادة ولعل عدمَ نظمِه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحققٌ في ضمن كل موعودٍ ولأنه مستمرٌّ في الدارين. روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: «هل رضِيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول: أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك قالوا: وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك قال: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم أبداً».
{ذلك} إشارةٌ إلى ذكرُه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعدِ درجتِه في العِظَم والفخامة {هُوَ الفوز العظيم} دون مايعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظرِ عن فنائها وتغيُّرِها وتنغُّصِها وتكدّرِها ليست بالنسبة إلى أدنى شيءٍ من نعيم الآخرة بمثابة جناحِ البعوض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانَتِ الدنيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سقى الكافرَ منها شربة ماء» ونِعِمّا قال من قال:
تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ** تبقي علينا ويأتي رزقُها رغَدا

ما كان من حق حرٍ أن يذِلّ بها ** فكيف وهي متاعٌ يضمحلّ غدا

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
{ياأيها النبى جاهد الكفار} أي المجاهرين منهم بالسيف {والمنافقين} بالحجة وإقامة الحدود {واغلظ عَلَيْهِمْ} في ذلك ولا تأخُذْك بهم رأفة. قال عطاء: نسَخت هذه الآيةُ كلَّ شيء من العفو والصفح {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مستأنفةٌ لبيان آجل أمرِهم إثرَ بيانِ عاجلِه، وقيل: حالية {وَبِئْسَ المصير} تذييلٌ لما قبله والمخصوصُ بالذم محذوف {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} استئنافٌ لبيان ما صدر عنهم من الجرائمِ الموجبةِ لما مر من الأمر بالجهاد والغِلظة عليهم ودخولِ جهنم. روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوكَ شهرين ينزلِ عليه القرآنُ ويَعيب المنافقين المتخلّفين فيسمعه مَنْ كان منهم معه عليه الصلاة والسلام فقال الجُلاَّس بنُ سويد منهم: لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتُنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل والله إن محمداً لصادقٌ وأنت شرٌّ من الحمار، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامرٌ يده فقال: اللهم أنزِل على عبدك ونبيِّك تصديقَ الصادق وتكذيبَ الكاذب فنزل». وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في يحلفون لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على تكرير الحلف، وصيغةُ الجمعِ في قالوا مع أن القائلَ هو الجلاس للإيذان بأن بقيتَهم برضاهم بقوله: صاروا بمنزلة القائل.
{وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي ما حُكي آنفاً والجملةُ مع ما عطف عليها اعتراضٌ {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أي وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارِهم الإسلامَ {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} هو الفتكُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وذلك أنه توافقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يدفعوه عليه الصلاة والسلام عن راحلته إذا تسنّم العقبةَ بالليل وكان عمارُ بنُ ياسر آخذاً بخِطام راحلته يقودها وحذيفةُ بنُ اليمان خلفها يسوقُها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفافِ الإبل وبقعقعة السلاحِ فالتفت فإذا قومٌ متلثّمون فقال: إليكم إليكم يا أعداءَ الله فهربوا. وقيل: هم المنافقون همّوا بقتل عامر لرده على الجلاس، وقيل: أرادوا أن يتوِّجوا عبدَ اللَّه بنَ أبيِّ بنِ سَلول وإن لم يرضَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَقَمُواْ} أي وما أنكروا وما عابوا أو ما وجدوا ما يورث نَقِمتَهم {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في غاية ما يكون من ضنْك العيشِ لا يركبون الخيلَ ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقُتل للجلاس مولى فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشَرَ ألفَ درهم فاستغنى، والاستثناء مفرَّغٌ من أعم المفاعيل أو من أعم العلل أي وما أنكروا شيئاً من الأشياء إلا إغناءَ الله تعالى إياهم أو وما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم {فَإِن يَتُوبُواْ} عما هم عليه من الكفر والنفاق {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} في الدارين.
قيل: «لما تلاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس: يا رسول الله لقد عرض الله عليّ التوبةَ والله لقد قلت وصدق عامرٌ فتاب الجلاسُ وحسُنت توبته» {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدنيا} بالقتل والأسرِ والنهب وغيرِ ذلك من فنون العقوبات {والاخرة} بالنار وغيرها من أفانين العقاب {وَمَا لَهُمْ فِي الارض} مع سعتها وتباعُدِ أقطارِها وكثرة أهلِها المصحّحة لوجدان ما نُفيَ بقوله عز وجل: {مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة.

.تفسير الآيات (75- 77):

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
{وَمِنْهُمُ} بيانٌ لقبائح بعضٍ آخرَ منهم {مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} لنؤتين الزكاةَ وغيرَها من الصدقات {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: يريد الحج وقرئ بالنون الخفيفة فيهما. قيل: نزلت في ثعلبةَ بنِ حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: «ادعُ الله أن يرزُقَني مالاً فقال عليه الصلاة والسلام: يا ثعلبةُ قليلٌ تؤدّي حقه خيرٌ من كثير لا تطيقه، فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حق حقَّه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدودُ حتى ضاقت بها المدينةُ فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثرُ مالُه حتى لا يسعُه وادٍ فقال: يا ويحَ ثعلبةَ فبعث مصدِّقين لأخذ الصدقات فاستقبلها الناسُ بصدقاتهم ومرا بثعلبةَ فسألاه الصدقة وأقرآه كتابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائضُ فقال: ما هذه إلا أختُ الجزية وقال: ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} أي منعوا حق الله منه {وَتَوَلَّواْ} أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه: يا ويحَ ثعلبةَ مرتين فنزلت فجاء ثعلبةُ بالصدقة فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال عليه الصلاة والسلام: هذا عملُك قد أمرتك فلم تُطعني فقُبض عليه الصلاة والسلام فجاء بها إلى أبي بكر رضى الله عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمرَ رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمانَ رضي الله عنه» وقيل: نزلت فيه وفي سهل بن الحارثِ وجَدِّ بنِ قيس ومعتب بن قُشير والأول هو الأشهرُ {وَهُم مُّعْرِضُونَ} جملة معترضة أي وهم قوم عادتُهم الإعراضُ أو حالية أي تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم.
{فَأَعْقَبَهُمْ} أي جعل الله عاقبةَ فعلِهم ذلك {نِفَاقاً} راسخاً {فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إلى يوم موتِهم الذي يلقون الله تعالى عنده أو يلقَون فيه جزاءَ عملِهم وهو يومُ القيامة وقيل: فأورثهم البخلَ نفاقاً متمكناً في قلوبهم ولا يلائمه قوله عز وجل: {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إخلافِهم ما وعده تعالى من التصدق والسلاح {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي وبكونهم مستمرِّين على الكذب في جميع المقالاتِ التي من جملتها وعدُهم المذكورُ، وتخصيصُ الكذبِ به يؤدّي إلى تخلية الجمعِ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ عن المزية فإن تسببَ الإعقابِ المذكورِ بالإخلاف والكذب يقضي بإسناده إلى الله عز وجل إذ لا معنى لكونهما سببين لإعقاب البخلِ للنفاق، والتحقيقُ أنه لما كانت الفاءُ الدالةُ على الترتيب والتفريعِ منبئةً عن ترتب إعقابِ النفاقِ المخلّدِ على أفعالهم المحكيةِ عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض وفيها ما لا دخل له في الترتيب المذكور كالمعاهدة أزيح ما في ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدارُ في ذلك والله تعالى أعلم وقرئ بتشديد الذال.